بالنسبة الى الجهاد في سبيل الله ، يختلف الناس فيه الى ثلاث فئات : فئة مجاهدة ، و فئة لا تجاهد ولا تستطيع عليه ، و فئة تقعد عن الجهاد وهي قادرة عليه ، و الفئتان الاوليتان أفضل عند الله من الفئة الثالثة ، و بالتالي أفضل داخل المجتمع الاسلامي ،ولهما حقوق ليست لسائر أبناء المجتمع .
[ لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - و المجاهدون في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة ]وهذه الدرجة هي : أن المجاهدين تتخصص لهم أموال الامة قبل القاعدين ، وان لهم التأثير في حياة الامة الاجتماعية أكثر من القاعدين ، وفي الاخرة تعتبر أعمالهم اثوب عند الله ، وتقبل صدقاتهم قبل ان تقبل من القاعدين .
ان صلاة المجاهدين في سبيل الله ترفع الى الله بسرعة البرق ، لان صاحبها قرن القول بالعمل ، أما صلاة القاعد فإنها قد ترفع اولا ترفع ، واذا رفعت فإنما ترفع بشروط قاسية ، ومثل الصلاة سائر العبادات و الممارسات ، ذلك ان الجهاد في سبيل الله يفتح عقل صاحبه، ويعطيه الهدى و المعرفة و الايمان ، و المجاهد في سبيل الله يزوده الله ببصيرة واضحة في الحياة ، لانه أقتحم عقبة الذات ولم يعد بينه وبين الحقائق الكونية حاجز من الهلع و الخوف و الطمع و التردد و الشك ، فإذا بهتنكشف أمامه حقائق الكون بوضوح ، ويزداد ايمانه بالله وبالقيم قوة وثباتا .
والمجاهــد في سبيل الله لا يعيش نفاقا في ذاته ، ولا تناقضا بين الدنيا والاخرة ، انه قد باع الدنيا بالاخرة ، واشترى بنفسه جنة عرضها السموات والارض ، فهو مطمئن من نفسه ، واثق من طريقته و منهجه .
ولكن لا يعني هذا ان القاعدين كفار ، بل هم مدينون عليهم أن يهيئوا مصالح العباد ، فالفلاح في حقله ، و العامل في مصنعه ، و الكاتب في مكتبه ، والكاسب و التاجر و.. و.. لكل واحد من هؤلاء واجب ، و مسؤولية و دور يؤديه في الحياة ، وعليه ان يؤدي دوره تماما ودون غش فيه .
ان المدنيين في المجتمع الاسلامي يشكلون صفوف الجهاد في سبيل الله ، فلولا زيادة الانتاج الزراعي ، ولولا جودة الصناعة الاسلامية ، ولولا سلامة و صدق البحوث العلمية المؤدية الى الكشوف و الاختراعات ، ولولا تداور الثروة بين التاجر و الكاسب و .. و .. الخ ،لولا كل ذلك لا يتمكن الجندي المسلم ان يؤدي دوره بالكامل ، ولذلك بين القرآن هنا : ان أفضلية المجاهد لا تعني ابدا ان القاعد ( العامل بوظائفه المدنية ) قد غمط حقه ، و جهل قدره و قيمته وقال :
[ وكلا وعد الله الحسنى ]
بايمانه و اتباعه لمناهج الله في الحياة ، وعاد القرآن و أكد أهمية الجهاد و فضل المجاهدين وقال :
[ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ]
ذلك لكي يبين ان المجاهد رفعه الله درجة في الدنيا ، وأعطاه أجرا عظيما في الدنيا والاخرة .
أجر المجاهدين :
[ 96] المجاهد يتمتع باجر عظيم فما هو ذلك الاجر ؟
اولا : انه يرفع عند الله درجات بقدر جهاده و تضحيته ، و تنعحبيبي هذه الدرجات في الدنيا ايضا مثلا : ان المجاهد يحسب عند الله عالما و يعطى درجة العلم ، لان الجهاد يفتح عقل صاحبه ، ويجعله يعرف كثيرا من الاشياء التي يجهلها الناس القاعدون .
فدرجة العلم ينالها المجاهد عند الله ، كما ينعحبيبي ذلك في حياته في الدنيا ايضا حيث يصبح عالما فعلا ، وكذلك يعطي درجة الايمان و التقوى و الشجاعة و الطاعة والانضباط و طول العمر و الصحة .
وكل تلك الاثار الخيرة للجهاد هي درجات و مكاسب في الاخرة تنعحبيبي ايضا في الدنيا .
ثانيا : انه يمنــح المغفــرة و التوبة ، حيث ان الله سبحانه يمحو سيئاته السابقة ، ولا يجازيه بها في الاخرة ، كما انه في الدنيا يتخلص من اثارها السلبية على نفسه .
ان الحسود المعقد المنطوي على ذاته ، و الضعيف الارادة و الكثير القول ، القليل العمل ، التارك باهماله كثيرا من الواجبات ، و المرتكب بضعف أرادته كثيرا من المحرمات ، انه اذا انخرط في الحياة العسكرية الاسلامية سوف تتغير عنده الصفات بفضل الخشونة و التعب و مواجهة الاخطار في العسكرية ، فيصبح الجهاد بالنسبة اليه مدرسة تربوية كاملة التأثير ، وهذه المغفرة التي ينالها المجاهد وهي : الصياغة الجديدة للشخصية ، وهي من خصائص الجهاد .
ثالثا : ان الله يعطي المجاهد الرحمة ، وهي تعني في الاخرة المعاملة الحسنة ،وقبول أعماله الصالحة بلا تردد ، وعدم التدقيق في حسابه ، اما في الدنيا فتعني : فتح أبواب الحياة أمامه ، لان الجهاد يربي صاحبه على التحكم في ذاته وفي الحياة ، ومن كان كذلك وفقه الله في الدنيا ، بالاضافة الى السمعة الطيبة التي يحصل عليها المجاهدون في المجتمع ، من هنا يصبحون موضع تقدير و احترام الجميع .
هذه هي مكاسب الجهاد درجات و مغفرة و رحمة ، لخصها الله تعالى بقوله :
[ درجات منه و مغفرة و رحمة وكان الله غفورا حيما ]واجب المستضعفين :
[ 97] على الشعوب المستضعفة التي يتحكم فيها الصغاة بالاستبداد و الظلم ، و يسلبون حريتها بالقوة ، عليها ان تثور ضد الطغاة ، واذا لم تستطع الانتصار لنفسها في أرضها فعليها الهجرة الى أرض اخرى ضمانا لحريتها ، وبالطبع في ظل الدولة الاسلامية ستكون الارض المسلمة معقل الحرية ، ومأوى المهاجرون الاحرار ، وعن طريق هجرة هؤلاء اليها تدعم قضيتهم ، لان الامة الاسلامية تحمل على عاتقها رسالة تحرير الشعوب المستضعفة ، وهؤلاء الاحرار المهاجـــرون سوف يزيدون من قوة الامة ، ويعجلون عملية تحرير أراضيهم من نير الطغاةوالمحتلين .
والذين لا يهاجرون في سبيل الله الى موطن آمن ، ويبررون ارتكابهــم للسيئات ، ومساهمتهم في ظلم أنفسهم وعدم الرد على المعتدين عليهم هؤلاء سوف يساقون يوم القيامة الى جهنم ، ذلك لان الظالم و المظلوم في الذنب سواء ، إذ كان بامكان المظلوم دفع الظلم عن نفسهولم يفعل .
[ ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ]
أي جاءتهم الوفاة حين كانوا يظلمون أنفسهم ، أما بعدم الرد على ظلم الظالمين لهم ، أو باقترافهم السيئات تحت ضغط الظالمين .
[ قالوا فيم كنتم ]
أي كيف كنتم تعيشون وفي أية حالة ؟! بالطبع لم يكونوا يعيشون في حالة رضــا ، ولا في حالة طاعة لله لانهم كانوا في ظل حكم غاشم ، ولكنهم لم يبينوا حالتهم ، بل بينوا فقط عذرهم الذي سرعان ما رد في وجوههم .
[ قالوا كنا مستضعفين في الارض ]
قالوا : مستضعفين ولم يقولا ضعفاء ، لان الله لم يخلق احدا ضعيفا ، بل الناس هم الذين يساهمون في اضعاف أنفسهم ، أو إضعاف بعضهم لبعض .
[ قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ]
مادامت الارض لله ، ومادام الانسان عبدا له ، فلماذا يستمر في أرض واحدة ؟ لماذا يعبــد أقرانــه حتى ولو كان عليه الظلم والكبت ؟ أفليس خير البلاد ما حمل الانسان ؟! كما قال الامام علي (ع) .
إن جزاء هؤلاء هو أشراكهم في ظلم الظالمين لهم ، بالاضافة الى جزاء سيئات أعمالهم التي لا يبررها الضغط عليهم من قبل الظالمين ، ماداموا قادرين على الهجرة عن أرض الظلم .
[ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ]
المستضعفون و واجب الهجرة :
[ 98 ] بلى هناك طائفة من المستضعفين لا يستطيعون الهجرة ، فأولئك قديعفيهم الله من جزاء بقائهم في أرض الظلم .
[ الا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ]فهؤلاء قد يكونون رجالا أو نساء أو شبابا ، وهذا يعني ان الهجرة مفروضة على كل الرجال القادرين ، وكل النساء القادرات ، وكل الشباب القادرين ، وليس من الصحيح بقاء المرأة القادرة على الهجدرة لان زوجها غير قادر ، أو بقاء الشاب لان والديه لا يستطيعان الهجرة .
ذلك لان الله سوف يحاسب كل واحد منا على عمله بشكل انفرادي ، ولا ينام اثنان في قبر واحد .
وانما يعفى هؤلاء عن جزاء الهجرة اذا لم يكونوا قادرين على دفع الظلم ، ولا على الهجرة من أرض الظلم ، فهم لا يستطيعون حيلة لمنع الظلم عن أنفسهم ولا يهتدون سبيلا للخروج من بلد الظالمين .
[ 99] ولا يسقط واجب الهجرة عن هؤلاء بمجرد عدم الهجرة ، بل عليهم ان يهيئوا لانفسهم وسائل القوة حتى يهاجروا ، أو يمنعوا الظلم عن أنفسهم ، ولذلك عبر القرآن عن سقوط واجب الهجرة عن هؤلاء بقوله ( عسى ) للدلالة على الاحتمال القوي دون التأكيد ، حتى لا ينامالمظلومون على الظلم تحت تأثير مخدر اليأس ، وتبرير عدم القدرة على الهجرة أو الثورة .
كلا فإن الانسان غير القادر عند نفسه ، قد يكون قادرا في الواقع لو تحرك متوكلا على الله .. قال الله تعالى :
[ فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ]ان صفة العفو الكاملة عند الله هي وراء العفو عن هؤلاء ، والا فهم مسؤولون ايضا عن عواقب سكوتهم وبقائهم مع الظالمين .
ماذا تعني الهجرة ؟
[ 100] و الهجرة لا تعني الاستغناء عن الوطن ، بل معناها الانتقال من الوطن الصغير الى الوطن الكبير ، من الافق الاضيق الى الافق الارحب ، الى حيث الرخاء و الحرية .
فهناك أراض واسعة خلقها الله ، و المهاجر سيجدها أمامه اذا لم يدركه الموت في الطريق ، اما اذا أدركه فانه سيجد أمامه رحمة الله والجنة .
[ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ]سيجد ترابا كثيرا ، والتراب يشكل نصف حضارة الانسان ، لانه موقع السكن و الزراعة و السياحة ، و نصفها الاخر الحرية التي عبر عنها القرآن بـ ( سعة ) ، حيث يمكن للبشر في ظل الحرية ان يستثمر طاقات التراب ، و يعيش حياة هانئة .
[ ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ]لانه هاجر بهدف دعم قضية الرسالة المتمثلة في تطبيق مناهج الله و تحرير عباد الله .
[ وكان الله غفورا رحيما ]
وكلمة أخيرة : ان نظرة واحدة الى التأريخ تعطينا فكرة واضحة عن دور الهجرة الاساسي في تأسيس كل الحضارات الكبرى ، وفي أغلب الحركاتالاصلاحية و التحررية في العالم عبر العصور ، وأهمية الاسلام انه يجعل الهجرة واجبا دينيا مقدسا ، و قاعدة أساسية في حياة المؤمنين ، و بذلك يضمن للحركة الاصلاحية البقاء ، و التوسع ، و القدرة على تجاوز القوى الطاغوتية ، كما يجعل لها أفقا عالميا يساعد على تركيع الطغاة بفضل تعاون الشعوب الساعية نحو التحرر و التقدم و التطوير .
وليت القوى التحررية الاسلامية عرفت اليوم هذا الدور الاساسي للهجرة ، و ركزت جهودها في أرض حرة ، ثم انطلقت منها لتحرير الشعوب .